اسمحو لى أن أقدم لكم هذه الرؤيه للدكتور / محمد هاشم راغب - حول رواية أولاد حارتنا للأديب / نجيب محفوظ - وأرى أن هذا الموضوع يتناغم مع إسم المنتدى (التنمية الثقافيه) وأرجو من وراء طرح تلك الرؤيه أن يتم إثراء المنتدى بالحوار حول بعض القضايا الثقافية
الموضوع مقسم على ثلاث أجزاء هذا هو الجزء الأول
(1)
قرأت رواية (أولاد حارتنا) للأستاذ نجيب محفوظ منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وكانت وقتها تُوزع سرا بين طلاب الجامعة مصورة عن نسخة لبنانية ، وقد شعرت وقتها – في سن الشباب – بغضب شديد لهذا المساس الفاضح بالدين وبقدسية الله تبارك وتعالى وارتجفت لبعض العبارات والمواقف التي تمس الأنبياء عليهم السلام ، وحمدت الله أن قيد لمصر من يقف أمام نشر هذه الرواية ، وكان الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق في طليعة من تصدى لنشرها في وقت كانت الثقافة الاشتراكية بمسحة شيوعية هي الغالبة وإليها كان ينتسب معظم "المثقفين".
لقد نشرت أخيرا الرواية في مصر وحققت مبيعات عالية في معرض القاهرة الأخير للكتاب ، ويوجب هذا إعادة مناقشة هذه الرواية بشكل حر وبصدر يتسع للرأي والرأي الآخر.
تقوم الرواية على فكرة غاية في الرمزية المباشرة – والتي تقلل من القيمة الفنية لها – وتعمد إلى تصوير صراع مفتعل بين "العلم" و"الدين" وهو الصراع الذي ينتهي في الرواية بانتصار العلم وموت الدين (على أقل تقدير) ، وهذه النتيجة الساذجة هي التي قدرتها لجنة الأكاديمية السويدية التي منحت نجيب محفوظ جائزة نوبل ، حيث قالت اللجنة في خطاب منح الجائزة في معرض ثنائها على نجيب محفوظ (لقد كانت رواية أولاد الجبلاوي مفاجأة كبرى ، فهي تحكي تاريخ البشرية الروحي ، قدمها في 114 فصلا بعدد سور القرآن ، وقد صور فيها بشكل واضح الرموز الكبرى للديانات اليهودية والمسيحية والإسلام ، وإن كانت متنكرة في أشخاص يواجهون مواقف مشحونة بالتوتر ، وإلى جانب هؤلاء شخصية تمثل العلم الحديث ، شخصية ممتلئة مهارة وخليط من الحب والمتفجرات وهي الشخصية التي تصبح مسئولة فيما بعد عن موت الدين أو موت الإله).
لقد حاول نجيب محفوظ مرارا أن يتنصل من المعاني المباشرة الواضحة التي تنضح بها الرواية ، حتى قال في إحدى لقاءاته المنشورة في الأهرام (أولاد حارتنا عمل حرمته الظروف من النقد، هذا عمل سياسي في المقام الأول... والمقصودون بالعمل فهموا معناه... لذلك الأرجح أنهم كانوا وراء تحويل الأمر إلى الناحية الدينية لكي أقع في شر أعمالي) ولكن وضوح الرواية ورموز أبطالها وأحداثها لا يسعف من يؤيد هذا الإدعاء بحال من الأحوال.
فالرواية تدور أحداثها في حارة تمثل هذه الدنيا ، وكبير الحارة وأصلها هو الجبلاوي الذي يمثل الدين (أو الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) وهو صاحب الشروط العشر (كالوصايا العشر) ولسبب غامض وغير منطقي (كغموض الدين) يفضل الجبلاوي أدهم (آدم) على إدريس (إبليس) فيظهر إدريس عصيانه فيطرده الجبلاوي من دار كرامته وعزه. وينتقم إدريس من طرده فيزين لأدهم فضوله للمعرفة (الشجرة المحرمة) وتساعده زوجته فيطردهما الجبلاوي ، فيخرجان من دار كرامته آسفين نادمين.
وفي رمزية سافرة ، تمضي الرواية لتتبع خطى أنياء الله الكرام ، فها هو أدهم وزوجته يساعدان قدري ( قابيل ) الذي ما يلبث أن ينقلب على أخيه همام (هابيل) فيقتله ، ثم تصف الرواية اضطهاد ناظر الوقف (فرعون) لبني حمدان (بني إسرائيل) إلا أن زوجة ناظر الوقف تتبنى طفلا من بني حمدان هو جبل (موسى عليه السلام) ويتمرد جبل على الناظر ويقتل أحد رجال الناظر دون قصد فيهرب ويترك الحارة ، فيجد فتاتين لا تستطيعان مزاحمة الرجال فسقى لهما ثم يزوجه أبوهما إحداهما مكافأة له ثم يقوم بتعليمه التعامل مع الثعابين ، ويقرر الجبلاوي الذي كان قد جعل بينه وبين أهل الحارة حجابا ، يقرر فجأة الظهور مرة أخرى فيتجلى لجبل في فضاء قصره ويقول له (لا تخف) ويرغب جبل في رؤية جده الجبلاوي ولكنه يمتنع ويقول له (لن تراني ، ما دام الظلام) ولكنه يأمره أن ينقذ بني حمدان من الاضطهاد وأن يواجه ناظر الوقف ...... إلى آخر أحداث تحاكي قصة خروج موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر ، ثم يأتي إلى الحارة رفاعة (عيسى عليه السلام) طيبا وديعا مسالما ويأبى أن يعاقب ياسمين (مريم المجدلية) على خطيئتها ويجتهد في نشر المحبة بين بني حمدان ولكنهم يرفضونه بعد أن قست قلوبهم فيتوجه لباقي أهل الحارة بدعوته .... وأحداث طويله تؤدي إلى مصرع رفاعة ، لكن الجبلاوي يرفع جثته ويدفنها في حديقة القصر، ثم يظهر قاسم ( محمد صلى الله عليه وسلم ) الذي ولد يتيما وكفله عمه زكريا ( أبو طالب ) وكان يرعى غنما لأرملة في الأربعين هي قمر (خديجة رضي الله عنها) فتحبه وتعجب به وترسل له خادمتها تشجعه على الزواج منها.. ويعجب به كل أهل الحارة لصدقه وأمانته ، ولكن فجأة يظهر له قنديل (جبريل عليه السلام) خادم الجبلاوي ليخبره بتكليف الجبلاوي له بإقامة العدل بين كل أهل الحارة دون تمييز ... وبعد حياة حافلة وأحداث ضخمة يموت قاسم فتعم الفتنة وتنتشر الفوضى ... ويتساءل أهل الحارة بحسرة عن الجبلاوي الذي يرى ويسمع كل هذه الفوضى وكل هذه المظالم دون أن يتدخل ... وفجأة يظهر عرفة (العلم الحديث) لا يعرف أهل الحارة له أبا ( فالعلم لا جنس له ولا دين) ويشتغل بالسحر فيمتلك نواصي القوة ، ويستغيث أهل الحارة بالجبلاوي الذى لم يروه يوما ولكنه لا يجيبهم ، ويقرر عرفة اقتحام قصر الجبلاوي ، ويتسلل إليه ليلا ويقتل الخادم الأمين للجبلاوي ، ولكن في الصباح ينتشر الخبر بموت الجبلاوي نفسه (نهاية الدين أو الذات الإلهية) حزنا على خادمه الأمين. ولكن عرفه – بدلا من أن يهش لنهاية الجبلاوي - يندم على تلك الجريمة لأنه اكتشف أهمية وجود الجبلاوي لأهل الحارة حيث كان تأثيره بالغا في توجيه أولاد الحارة الطيبين وجعلهم على استعداد للتضحية من أجل تنفيذ توجيهاته لخير وسعادة الحارة ، ويتمكن عرفة من صنع قنبلة حارقة يقاوم بها الظالمين ولكن ناظر الوقف (الحكومة) يكتشف علاقته بمصرع الجبلاوي فتهدده وتبتزه حتى يضطره للعمل معه فيصنع له المزيد من القنابل التي يستخدمها الناظر في السيطرة على أهل الحارة واستعبادهم ، ويندم عرفه على أن سحره انقلب عليه وكان السبب في هذا الاستعباد ثم ينزل عليه الخبر الصاعق من خادمة الجبلاوي أن سيدها مات وهو راضٍ عن عرفه ، فيهرب بالكراسة التي دون فيها رموز سحره ويلحق به رجال الناظر (كأنهم مسالح الدجال) فيقتلونه ولكن بعد أن ينجح أخوه حنش في أخذها ليبدأ بدوره تكوين جماعة جديدة تؤمن بالسحر وتجهز نفسها ليوم الخلاص.