مقدمة دبلوم التصميم الفني
تحياتي وتقديري لإدارة وزوار المنتدى
يسرني أن أكون بينكم، كما يسرني أن أنشر أولى مساهماتي في هذا المنتدى المميز.
بتكليف من مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير في قطر، قمت بوضع منهج التدريب لدبلوم التصميم الفني (الجرافيك).
مدة الدبلوم 300 ساعة تدريب على مدى ثلاثة أشهر.
و ها أنا أضع بين أيديكم مقدمة دبلوم التصميم الفني، لعلكم تجدون فيها ما يُفيد ..
(في أيِّ صُــورَةٍ مَّــا شَـــاء رَكَّبَــكَ)
قد يستغرب القارئ هذا العنوان الذي وضعته أو بالأحرى (استعرته) باعتباره آية كريمة من القرآن الكريم، ولكنني على يقين من أن هذا الاستغراب سوف يتبدد مع مطالعة هذه المقدمة التي أراها من الضرورة والجدة بمكان في هذا المجال.
يتصور كثير من الناس أن علم التصميم (Design) أو التصميم الفني (Graphic Design) هو علم حديث، أو على أحسن تقدير هو علم إنساني محض حتى وإن كان موغلا في القِدم. وحقيقة الأمر أن علم (التصميم) سابق على وجود الإنسان نفسه، فكل ما في الوجود هو من تجليات هذا العلم، ذلك العلم الإلهي الذي وضع مبادئه وعناصره الخالق سبحانه وتعالى وليس الإنسان.
انظر إلى جسمك، ستلاحظ فورا أن شقك الأيمن يشبه تماما شقك الأيسر، إن هذا ما نسميه بلغة التصميم (التوازن Balance)، وهو واحد من أهم مبادئ التصميم (Principles of Design)، وبالتحديد هو نوع من أنواع التوازن يسمى التوازن التماثلي (Symmetrical Balance).
انظر إلى الطبيعة من حولك.. انظر إلى ملابسك.. ستجد الألوان في كل شيء وفي كل مكان، واللون من أهم عناصر التصميم (Elements of Design).
انظر إلى الأشجار في الغابة، إنها تتكرر من حيث المسمى.. لكنها لا تتشابه بأي حال، فهناك القصيرة والطويلة والمتوسطة، وهناك المائلة والمعتدلة والمنحنية، وهناك النحيفة والغليظة، وهناك ناعمة الملمس والخشنة، وهناك وارفة الظلال وإبرية الأوراق، فعند مشاهدتك لكل هذه الأنواع من الأشجار في آن واحد، يتسلل إليك على الفور شعور موسيقي اسمه (الإيقاع Rhythm).
وفي الحياة عموما، ترى الأشياء البعيدة صغيرة، أما الأشياء القريبة فتراها كبيرة، إن هذا ما يطلق عليه في مبادئ التصميم (القياس – التناسب والأبعاد (Scal / Proportion)، إن رؤية الأشياء على هذا النحو تولد لديك إحساسا بالعمق والاتساع والرحابة.
انظر إلى تلك المساحة من الأرض وقد نبتت فيها مجموعة من الأزهار، فستجد بصرك معلقا بألوان الأزهار وليس بسيقانها وأوراقها أو المساحة الخضراء التي تحيط بها مهما كان اتساعها، إن هذا ما نسميه (نقطة الاهتمام أو التركيز Emphasis / Focal Point ) وكأن السيقان والأوراق والمساحة الخضراء، كلها مسخرة لإبراز الزهور، لتكون محط نظرك ومحور اهتمامك.
انظر إلى السماء في عتمة الليل، سترى ملايين النجوم، وسترى قمرا واحدا أكبر من كل هذه النجوم، رغم أنه – في الواقع – أصغر حجما بملايين المرات من أي نجم تقع عليه عينك، إن هذا ما نسميه في علم التصميم (الحجم المرئي Visual Size)، وهو يختلف كليا عن (الحجم الطبيعي Physical Size) الذي نتعرف بواسطته على الحجم الحقيقي للأشياء من حولنا.
انظر إلى حركة موج البحر وهو قادم نحو الصخرة التي تقف عليها، إن هذه الحركة لا بد أن تنتهي بانكسار الموج فور اصطدامه بالصخرة، فكل موجة قادمة نحو الصخرة تجعلك تنتظر لحظة اصطدامها، إنها حركة بدهية متوقعة لا بد أن تنتهي على النحو الذي شاهدته مئات المرات.
ولكن.. ماذا لو أن الموجة القادمة تجمدت فجأة – في لقطة فوتوغرافية – قبل أن تلامس الصخرة؟
إن هذا سيولد لديك شعورا بالتوتر والرغبة في إتمام الحركة، لأنك تتوقع أن ينتهي الأمر كالمعتاد وهو اصطدام الموجة بالصخرة، وهذا ما نسميه (الحركة الوهمية أو المتوقعة Illusion of Motion) في الصورة أو التصميم.
انظر إلى السماء عند الغروب، أو لحظة الشروق، ستجد تدرجا لونيا خلابا في الأفق يسمى في علم التصميم بـ(الإشراق النسبي للون Value)، وهذا مبدأ آخر من مبادئ التصميم الفني.
لنتخيل أن كل ما حولنا متشابه في الحجم واللون والملمس والشكل، عندها سيكون من المستحيل أن نفهم ماذا تعني كلمة (تصميم) إذا تشابهت كل الأشياء في كل شيء.
عودة إلى العنوان – الآية.. (في أي صورة ما شاء ركبك)
(يَا أيُّـهَا الْإِنسَـان مَـا غَـرَّك بِـرَبِّـك الكـرِيـم الًّـذِي خَـلَـقَـك فَـسَـوًّاكَ فَـعَـدلـكَ فِي أيِّ صـورَةٍ مَّا شَـاء رَكَّـبَـكَ) (سورة الانفطار، الآيات 6 و7 و
.
إن هذه الآية الكريمة ترسي بوضوح – حسب قراءتي الفنية لها – مراحل ومبادئ وعناصر التصميم في آن واحد، فكلمة (خلقك) لا تعني (سوّاك)، وكلمة (سوّاك) لا تعني (عدلك)، وبتأمل الآية يتضح أن كل كلمة من هذه الكلمات هي مرحلة أو خطوة من خطوات متتابعة، لتنفيذ التصميم الذي هو أنا وأنت.
(خَـلَـقَـك.. فَـسَـوّاكَ.. فَـعَـدلـكَ)، إذ إن (خلقك) تعني الإرادة بجعلك موجودا، فقبل هذه الإرادة لم تكن شيئا، و(سوّاك) تعني تنفيذ هذه الإرادة في كيان مرئي ملموس، أي كتلة (Mass) لها شكل (Shape)، وكلمة (عدلك) تعني منحك صورتك النهائية، فنَصب هامتك لتمشي معتدلا متزنا، فقبلها كنت جنينا متكورا حول نفسك، ثم طفلا تحبو علي يديك ورجليك، ثم تحاول الوقوف، ثم تخطو خطوتك الأولى بعد مرات ومرات من السقوط.
ثم (في أي صورة ما) أي (الشكل Shape) الذي جمع أجزاءك أو عناصرك (Elements) بعضها مع بعض في تركيب بديع (شَـاء رَكَّبَـكَ)، إنه التصميم النهائي الذي ارتضاه الله لك لتكون عليه (Final Design) ، فقد كان من اليسير على الله أن يجعلك في أي صورة أخرى، أي في (تصميم آخر).
وهذا ما يحدث تماما عند عملية التصميم (مع الفارق.. فلله المثل الأعلى)، فالتصميم يبدأ بفكرة في رأسك لا يعلمها أحد من حولك، وتتبلور هذه الفكرة في رأسك حتى إنك لتراها ماثلة أمام عينيك بوضوح قبل أن تظهر ملامحها على الورق، ثم تبدأ في وضعها على الورق من خلال خطوط وعناصر وأشكال، ثم تقوم بإدخال التعديلات والتحسينات التي تجعلها أفضل، ومن ثم تأخذ شكلها النهائي، ذلك (التصميم) الذي ارتضيت أن يطلع عليه الناس.
الخلاصة.. أن الكون من حولك هو أعظم مرجع لتعلم التصميم، فكلما استطعت أن تطيل التأمل، وتمعن النظر فيما حولك، وتحسن قراءة العلاقة بين الأشياء (العناصر) ثم تفككها وتعيد بناءها من جديد على نحو غير مألوف أو مسبوق، فستنجز (عملا) نستطيع أن نطلق عليه اصطلاحا (تصميما).
هكذا صنع الفلاسفة قديما حتى بلوروا واستخلصوا ما يسمى بعلم (التصميم)، الذي لم تكن مبادئه وعناصره ومعاييره الجمالية سوى قراءة متأنية في صنع الله سبحانه وتعالى، حتى وإن انشغلوا في غمرة تأملهم بالصنعة عن الصانع، وبالإبداع عن المبدع.
إن هذا المنهج في التحليل قادني – بفضل الله – إلى اكتشافات ومصطلحات جديدة أضفتها إلى مبادئ وعناصر التصميم الفني، وأنا هنا لا أزهو بنفسي، بل أتحمل مسؤولية ما توصلت إليه واعتقدت أنه الصواب.
فقد أضفت إلى عناصر التصميم السبعة عنصرا ثامنا ألا وهو (الصورة)، وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
أما مبادئ التصميم فقد كان لي معها وقفات وتأملات..
فمثلا، فيما يتعلق بمبدأ التوازن التماثلي (Symmetrical Balance)، وهو من أهم مبادئ التصميم، وجدت أن هناك أنواعا منه يجب أن تصنف تحت مصطلحين جديدين لأسباب جوهرية تعرضت لها بالبيان والبرهان في مكانها من هذا المنهج، والمصطلحان الجديدان هما:
التوازن التماثلي الشكلي (Symmetrical Balance in Shape).
والتوازن التماثلي التقريبي (Approximate Symmetrical Balance).
وكذلك الحال في التوازن الشعاعي أو القطري (Radial Balance)، فقد رأيت أنه من الضروري اشتقاق مصطلحين جديدين هما:
التوازن الشعاعي الشكلي (Radial Balance in Shape).
والتوازن الشعاعي التقريبي (Approximate Radial Balance).
وسيأتي بيان ذلك عند تناول هذا النوع من التوازن.
هناك أيضا مبدأ الحركة الوهمية أو المتوقعة (Illusion of Motion)، والحقيقة أن الفرق بين الحركة الوهمية والحركة المتوقعة من الصعب إدراكه، لكن بقدر من التأمل وبعض الجهد يمكننا إدراك هذا الفرق. ومن ثم فقد توصلت إلى أن الحركة الوهمية لا يمكن لنا أن نحدد بدايتها أو نهايتها، أما الحركة المتوقعة فبدايتها محددة ونهايتها متوقعة، لأنها حركة فيزيائية تعمل وفق قوانين الطبيعة حتى وإن كانت – وهي كذلك – حركة وهمية أيضا.
وخلصت من المقارنة، إلى أن كل حركة متوقعة هي حركة وهمية، وليست كل حركة وهمية هي حركة متوقعة.
لذا، فقد رأيت ضرورة الفصل بينهما على النحو التالي:
الحركة الوهمية (Illusion of Motion).
والحركة المتوقعة (Expected Motion).
أسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما..
إنه ولي ذلك والقادر عليه..
مع تمنياتي للجميع بمستقبل مشرق...
أحمد عبد العزيز
خبير ومستشار تدريب التصميم الفني والإخراج الصحفي